Uncategorized

المدني وإمتحان العربي

” ماتقلبوش الوراقي “

هكذا بدأ إمتحان اليوم بصرخاتٍ تعلو في المدرج رقم ثلاثة والذي يملئه طلاب قسم المدني، المراقبون هنا كثيرون يكاد عددهم يغلب أعداد الوافدين للإمتحان، يقف أمامي على اليسار قليلاً رجلاً في الخمسين من عمره يرتدي قميص ذا مربعات كثيرة وبنطلوناً واسعاً من فوق .. يظل يضيق بنسبة قليلة جداً إلى أن يصل أسفل قدميه .. ينزل على حذائه الأسود من الوراء قليلا، أما وجهه فتنصفه لحية خفيفةً سوداء من الجانبين وكثيفة يلمها الشيب من الوسط وإلى الأسفل، تنزل أسفل ذقنه ببضع سنتيمترات .. شعره الأسود لايكاد أن يرى يعتريه الشيب أيضاً، يرتدي ساعة لم أعرف نوعها لعدم نظري الجيد ولكنها ذات جلد ودائرية تخبرني بأنها ساعةً ورُبع، في اليد الأخرى يمسك ظرفاً لونه يميل إلى لون الرمل لابدّ أن داخل الظرف أشياءاً مهمة فهو لم يتوقف عن الضغط المستمر عليه، بكل حواسه يتفقد الجميع ومن بينهم أنا، يرمقني بنظرات غريبة غامضة وبريئةً أحياناً، أعترف بأنّي أكثرت النظر فيه لا أعلم إذ كان السبب هو الملل أم وجوده أمامي دائماً، كنت قد عاهدت نفسي ألا أخرج من أي إمتحان إلا وقد أستنفذت الوقت كله سواء أكان لدي ما أكتب أو لا، أضع كل مالدي في الورقة أضع القلم جانباً وأرفع رأسي للمشاهدة، رؤوساً كثيرة تتوسط و تحملها الأيادي، طقطقات الأقلام على المقاعد، النظرات الطالبة للمساعدة، إهتزاز الأرجل والسقف الذي بات مُغري للكثيرين، الهدوء التام واللامبلاة والملل تتخلل البعض الأخر ، إنت! لا اللي وراه إنت ايه انت !! نوض! نوض فوق قتلك! نكلم فيك اني ولا؟!
يصرخ أحدهم يشد إليه إنتباه الجميع، يرد الطالب غير مبالي : أني! والله مادرت حاجة .. خيرني
يأتي مسرعاً إليه ويبدأ سيناريو فرض الشخصية يضفي على البعض المتعة والحماس .. ها قد بدأ الإمتحان حقاً، تنتهي المشاجرة بإستبعاد الطالب إلى مكاناً أخر ولن تنتهي مسيرته في البحث عن مساعدة .. يتفقد مكانه جيداً، يلتفت فيرى على يساره فتاةً لم تعتري مشاجرته أي إهتمام، إلتهمته السعادة، يصرخ في داخله ؛ إنه القدر! وضعني بجانبها كي تساعدني، يناديها لا تسمعه، يرفع صوته قليلاً بعيوناً تملئها الحنيّة والبراءة قائلاً : باش مهندسااه! … يصل الصوت إلى مسامعها مخترقاً الحجاب الذي تضعه على رأسها، تأخد حقيبتها مسرعة وتضعها بجانب ورقتها حيث لا أمل من النظرإليها، تخفض رأسها أكثر وتكمل الحل، أما هو فلا يشعر إلا بالخذلان، ولكنه سرعان ماينسى ماحصل ويرجع مجدداً يناديها ..

“اللي يبي يطلع يطلع “
يصرخ احد المراقبين سعيداً بهذا الشي، فتنزل العشرات من فوق، يرتبك البعض الآخر وتبدأ النظرات الطالبة للمساعدة بقوة أكبر وحياءاً أقل، هناك يرن هاتفاً لأحد الطلاب فيسرع المراقب إليه طالباً بأن يغلقه، في الأمام وإلى الأسفل تجد طاولةً يتجمع عليها المراقبين كبار السن، ستة، هذا عددهم واحداً يجلس على الكرسي وهو سيّد مادتي “استركشر وبروبرتي” كثير التحدث عليهن، البعض يجلس على الطاولة محركاً احدى أرجله الى الأمام والخلف، والأخرون يتمتعون بالوقوف، يتوسطهم رجلاً يستهزء على أحدهم يتحدث بصوتٍ عالٍ ولكنه بعيداً جدا مني فلم أستطع أن أعرف مايقول، قام المراقب الذي يقف أمامي بالطلب من المراقب الجالس على الكرسي بأن يُسكته فردّ عليه بحركاتٍ فهمنا منها بأنه لايستطيع إسكاته، إنه رجلاً غريب يخيف الكثيرون لعدم لباقته وخفة عقله الغريبة، سرعان مايجد أحد ليوبخه أمام الجميع لأتفه الأسباب، أحياناً لا يجد سبباً فيختلق له سبب ، المرة الأخيرة التي رأيته فيها كان قد وبّخ فتاة ترتدي العباءة شكّ بأنها تغش فأخد ورقة هويتها الجامعية بقوة وفتحها ينظر مافيها وعندما أكتشف بأنها هوية قام بحذفها على مقعدها بكل استصغار، علمت حينها بأنها تشعر بالمهانة، أمام لا يقل عن مئة وخمسين طالباً يمس كرامتها التي لاذنب لها إلا وجودها على هذه البُقعة معه، رجعت في تأملاتي وتناول العلكة ألتفت يساراً وإذ به ينزل من فوق، توقف قلبي عن الخفقان لحظةً، عندما وصل بجانبي نظر في عيناي فرقمته بنظرة لا أعلم ماتعنيه، جعلته يقف مندهشاً ويذهب مجددا.. إلتفت مرة أخرى؛ كان قد أخبره عقله بأنّي غير طبيعية، سرعان ما أظهرت البراءة وأزحت عيناي عنه، فذهب، ملئتني الراحة فعلاً، في تلك الدقيقة تخيلت كل ماسيحصل إهانته إستغبائه والكثير الكثير من الكلمات الشاذة ..
يظل البعض ينزل من فوق يسلمون أوراقهم ويخرجون، تذكرت بعد تأملاتي للمكان بأنّي نسيت حل السؤال الأول الذي يتضمن تعبيراً عن سبب دخولي هذه الكلية، لم أستطع قول الحقيقة التي كانت سبب دخولي حقاً، اكتظاظ الفصل الذي يحمل المجال الذي أحبه بالأولاد في الثانوية، فقلت بأنها طموحي منذ الصغر إنهم لن يفهموا حقاً ما كان يجول داخلنا، في الحقيقة نحن في نظرهم ماعز أو ضأن لكثرتنا، وسنمحى من بالهم إيبان دخول ماعز أخرون أصغر منّا سنّاً،
نزلت صديقة لي وأشارت إلي بخروجها.. وضعتُ بطاقتي وقلمي في الحقيبة وأخرجت هاتفي، حملت أوراقي وكتابي المُلقى على الأرض أكتفيت بهذه المدة ونزلت أسلّم أوراقي وأخرج، مثل ما فعل الكثيرون .. إنتهى ثاني إمتحان ولم يبقى إلا رقم مدرج طلاب المدني ..

“إمتحان العربي خيالاً لا يُمكن تصديقه “
رحيلة
2/6/2016

Leave a comment